التنمية في أفريقيا- نحو رؤية نقدية وسيادية متحررة

في غضون عام 2004، خطّت يدي هذه السطور الوجيزة. واليوم، مدفوعًا ببرنامج تلفزيوني تناول الإعلام وقضية الاستعمار الجديد، عدتُ إليها متفحصًا. حاولتُ تقمص دور المحقق أو المستجوب، ذاك الذي يبحث عن المخطئين دون الغوص في جذور المشكلة أو استكشاف الحلول، فتوصلتُ إلى ما يلي.
لقد بات مصطلح "التنمية" حاضرًا بقوة في الخطاب الإعلامي والمؤسسي الأفريقي. نجده في الأخبار، ووثائق السياسات العامة، والخطط الإستراتيجية الحكومية، وأجندات المنظمات الدولية، وعلى شفاه الصحفيين والإعلاميين والناطقين الرسميين بلا استثناء. ومع ذلك، يبقى السؤال المحوري يلحّ علينا: أيّ تنمية تحديدًا نتحدث عنها؟ وما هي المسلمات الضمنية التي يستند إليها هذا الخطاب؟ والأهم من ذلك، في خدمة من يتم تشكيل هذا المفهوم؟
اقرأ أيضا
list of 2 itemsالاتحاد الدولي للصحفيين: إسرائيل تستهدف الحقيقة بقتل الصحفيين في غزة
آخرهم الشريف وقريقع.. إسرائيل تغتال 11 من كادر الجزيرة في غزة خلال الحرب
على عكس ما توقعه ماركس وإنجلز، اللذين رأيا أن تطور القوى المنتجة في المجتمعات المتقدمة سيجر حتمًا المجتمعات المتأخرة معها، فقد أثبتت حقائق القرن العشرين زيف هذه النظرة المتفائلة.
وكما أوضح ديفيد لاندس في كتابه "ثروة الأمم الفقيرة" (1998)، لم يمضِ سوى جيلين على التجربة الاستعمارية - التي يُنظر إليها اليوم (وهو إشكال بحد ذاته) على أنها طفرة اقتصادية - حتى تلاشى ذلك التفاؤل الساذج.
"كانت البرامج الاقتصادية للدول الرأسمالية موجّهة في الأساس لتعزيز مصالحها الذاتية. صحيح أنها ربما جلبت بعض الفوائد الثانوية لمستعمراتها - وقد حدث ذلك في بعض الأحيان - ولكن كنتيجة غير مباشرة، وحتى في هذه الحالات، اتخذت هذه التنمية شكلًا مختلفًا تمامًا عما كان يُشاهد في العواصم الاستعمارية" (لاندس، 1998، ص. 45).
ومع ذلك، فإن انتهاء الاستعمار الرسمي لم يمثل نهاية لروابط التبعية، فاستمرت المستعمرات السابقة في تأدية دور المناطق الهامشية اقتصاديًا، خاضعة لمنطق ومصالح المركز، هذا المركز الذي استعاد قواه سريعًا بعد فقدان مناطق نفوذه، في حين كانت تلك المستعمرات مستغرقة في التلذذ بنشوة الحرية الوليدة. علاوة على ذلك، فإن النموذج التنموي الذي تم فرضه عليها عقب الاستقلال، في سياق العلاقات العالمية، أبقى على العديد من البنى الاستعمارية كما هي، وهي: التخصص الإنتاجي، وتصدير المواد الخام، والتعرض لتقلبات الأسواق الخارجية، بالإضافة إلى عامل جديد، وهو المديونية الهيكلية (رودني، 1972، أمين، 1976).
وانطلاقًا من هذا المنظور، أقرّ العديد من الاقتصاديين المنتمين إلى ما يعرف بمدرسة "التنمويين" باستحالة الاعتماد على قوى السوق لحل المعضلات الهيكلية التي تعيق التنمية بشكل تلقائي.
بل على العكس من ذلك، فقد حذروا من التداعيات الوخيمة لليبرالية المتسرعة، مثل الاقتصادات المتخصصة وغير المتوازنة، وتقلبات الأسعار الدولية، وهشاشة أسعار الصرف، والاعتماد المفرط على سلعة أو سلعتين رئيسيتين - الأمر الذي أدى إلى ظهور ما يعرف بـ "جمهوريات الموز" (سواء كانت جمهوريات الماس أو النفط أو البن، وغيرها) (فرانك، 1967، بريبيش، 1950).
وتجسد حالات نيجيريا وزامبيا وموزمبيق بشكل جليّ حدود هذا النموذج. فنيجيريا، على سبيل المثال، تتمتع بناتج محلي إجمالي للفرد يعتبر مرتفعًا نسبيًا بفضل استخراج النفط، غير أنها تعاني في الوقت ذاته من مستويات مقلقة من الفقر، والتفاوت الاجتماعي، والتخلف البشري (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2023).
أما موزمبيق وزامبيا، فقد خضعتا لبرامج التكيف الهيكلي التي روج لها كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، مما أدى إلى انهيار اقتصادي تحت وطأة إصلاحات فككت نسيجهما الاقتصادي والاجتماعي الهش (مكندويري وسولودو، 1999).
وفي القارة الأفريقية، أدى إخفاق العديد من البرامج الطموحة إلى ظهور تيارات نقدية جديدة. فهناك من يرى أن سبب هذا الفشل يكمن في سوء الإدارة الداخلية، والمحسوبية، والفساد (بايار، 1993)، بينما تتجه تيارات أخرى ذات نزعة بنيوية وراديكالية، إلى إدانة منطق الرأسمالية العالمية، واستمرار التبادلات غير العادلة، والاستنزاف المستمر للموارد من خلال الأدوات التجارية والمالية والتكنولوجية (أمين، 1976، غروسفوغيل، 2007).
وعلى الرغم من أن الحقبة الاستعمارية قد طويت صفحتها رسميًا، إلا أنها مهدت الطريق لأشكال جديدة من الهيمنة، تجسدت في الاستعمار الاقتصادي الجديد الذي لا يزال قائمًا تحت ستار التعاون، أو المساعدات التنموية، أو العولمة. ولا تزال القدرة السيادية على اتخاذ القرارات خاضعة لشروط تفرضها المؤسسات متعددة الأطراف، والدائنون الأجانب، والشركات العملاقة (ستيغليتز، 2002).
وبناءً على ذلك، تظل أفريقيا موضوعًا "أزليًا" للدراسة والتحليل والتخطيط، ولكنها نادرًا ما تكون الفاعل. فالاقتصاديون، والوكالات الدولية، ومراكز البحوث، والجامعات الأجنبية، هم من يقومون بتحليل ثرواتنا، وتقييم أراضينا، وتصنيف أعمالنا، وتحديد "القيمة الإنتاجية" لقطننا وأسماكنا وفحممنا.
وفي هذا السياق، يتبلور سؤال جوهري: ما الدور الذي يمكن (بل يجب) أن تقوم به وسائل الإعلام الأفريقية في بناء رؤية نقدية وسيادية للتنمية؟ وهل من الممكن صياغة فكر اقتصادي تحرري وفاعل، ينبع من داخل أفريقيا، مستندًا إلى واقعها المحلي، وقادرًا في الوقت ذاته على التفاعل على المستويين الإقليمي والدولي؟
وتشير أمثلة مثل موريشيوس، وتونس، وجنوب أفريقيا، ورواندا، إلى أنه مع وجود مشاريع سياسية واضحة، وكفاءة فنية، ومشاركة مجتمعية حقيقية، يصبح من الممكن رسم مسارات تنموية تتضمن قدرًا من إعادة التوزيع. ومع ذلك، فإن بلوغ هذه المسارات يتطلب مؤسسات راسخة، وإعلامًا متنبهًا، وتفكيرًا استراتيجيًا بعيد المدى.
فبدلًا من مجرد تكرار الخطاب السائد، يجب أن تمتلك وسائل الإعلام الأفريقية القدرة على تفكيكه، والتشكيك في مسلماته، وطرح بدائل له. فأفريقيا ليست قارة محكومة بالفقر، والتعامل معها بهذه النظرة لا يفضي إلا إلى تثبيت هذا المصير. إذ يتحول القدر المزعوم إلى نبوءة تحقق ذاتها، ويضفي الشرعية على القرارات السياسية الخاطئة، سواء من جانب المتلقين للدعم، أو من جانب أولئك الذين "يقدمون" هذا الدعم.
وعلى هذا النحو، وكما في "متلازمة ستوكهولم" التي يطور فيها الضحية مشاعر إيجابية تجاه الجلاد كالتعاطف أو المودة أو حتى الولاء، تبدو أفريقيا وكأنها تتقبل الاستعمار الجديد عن طيب خاطر، بل وتنجذب إليه وتفتتن به؛ لأنها تعتقد أن حياتها ومستقبلها رهن بموافقة القوى الاستعمارية السابقة، وليس بجهودها الذاتية.
إنها "متلازمة التبعية" أو "فقدان الإرادة المستقلة". لقد أظهرت الأجيال التي ناضلت من أجل التحرر شجاعة فائقة في انتزاع الاستقلال السياسي، ولكنها تبدو اليوم مترددة في بناء مستقبل تنموي حقيقي وقيادة شعوبها نحوه.
لذا، من الضروري إعادة النظر في مفهوم التنمية، ليس بوصفها قدرًا محتومًا، بل باعتبارها عملية سياسية وثقافية واقتصادية تُبنى من الداخل بإخلاص، بروح الانتماء العميق ورؤية إستراتيجية واضحة المعالم. تنمية تخصنا وحدنا، في شكلها ومضمونها واتجاهها.